عدم التزام الإمام الطحاوي بالتبويب والترتيب المنهجي في هذه العقيدة
سبق أن قلنا: إن الإمام الماتن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله لم يلتزم في هذه العقيدة التبويب والتفصيل المنهجي الدقيق أو المنطقي، وإنما كتبها -رحمه الله- استرسالاً، وهي عقيدة فيها خير كثير، وفي ألفاظها بلاغة ووجازة، ولكن هذا لم يمنع من تداخل العبارات، وتباعد أطراف الموضوع الواحد كما في موضوع الإيمان، وموضوع القدر وغير ذلك، وهذه الفقرة مثال على ذلك.وموضوع الإيمان قد تقدم الكلام عنه في فقرات سابقة ومنها قوله رحمه الله: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، ثم بعد ذلك تعرض لموضوع الإيمان من جهة التعريف الاصطلاحي فقال: (والإيمان: هو الإقرار)، ونلاحظ في الموضع الأول وكأن الشيخ يريد أن يتحدث عن الأنبياء، لكن ذكر معهم غيرهم فقال: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، فليس هذا التكرار تكراراً مطلقاً، لكن فيه شيء من الخصوصية؛ لأنه قال في الفقرة التي قبلها: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً؛ إيماناً وتصديقاً وتسليماً).فناسب أن يذكر هنا بقية الأنبياء، فقال: (ونؤمن بالملائكة والنبيين..)، ولما جاء إلى هذا الموضع ذكر الإيمان لبيان حقيقته الاصطلاحية، أي: ما هو الإيمان في اصطلاح الفرق، فيذكر الفرق فيه بين اصطلاح أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، وتعرض الشيخ لهذه الفرق على هذا الأساس.وجاء بعد فقرة: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه)، والتي قبلها: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) وهي التي تحدثنا فيها عن قضية الرجاء والخوف، والتوازن بينهما، فهنا لما تحدث عن حال المؤمن مع ربه هل هو رجاء محض أم خوض محض؟ أم بين هذين، ثم تحدث بعد ذلك ما الذي يخرج العبد من الإيمان؛ لأنه قال: (ينقلان عن ملة الإسلام) فذكر ما ينقل العبد عن الإيمان، ثم ذكر تعريف الإيمان في اصطلاح أهل السنة والجماعة ، والشارح رحمه الله ذكر الخلاف في ذلك، وتعرضنا له بالتفصيل.ثم قال هنا: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى).ونلاحظ هنا أمرين: الأول: أنه ذكر القدر، فكأن هذا الموضوع مدخلاً للحديث عن القدر، والأمر الآخر: أن الإمام الطحاوي أثناء كتابته تأتيه مواضيع العقيدة تباعاً، فهو بعد ذلك يبدأ في موضوع أهل الكبائر، فقال: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين؛ بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه…)، فالحديث عن مرتكبي الكبائر، والكلام في الكبائر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة في ذلك، وما يأتي بعد ذلك من الكلام عن الصلاة خلف البر والفاجر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة ممن ضل من الفرق في هذا؛ كل هذا ناسب أن يعيد الإمام الطحاوي بيان حقيقة الإيمان.إذاً فذلك -كما يبدو- من أجل أمرين: الأول: التمهيد لموضوع الكبائر.والثاني: أنه ذكر فيها القدر، وسيأتي بعده الكلام عن القدر، وقد تعرض الشارح لمسألة القدر في الشرح كما سيأتي إن شاء الله.